عند مقارنة علم الحيوان في التراث العربي مع فروع علم الحيوان الحديث، قد نلاحظ أنه يغلب عليه طابع المعرفة الشعبية أكثر من الطابع العلمي الأكاديمي، فلا يظهر مثلاً أي تطرق للأصول الوراثية للأنواع الحيوانية أو تلميح للقرابات الوراثية بين الأنواع و التي يقوم على أساسها التصنيف العلمي . و لكن هذه النتيجة طبيعية، ففي فترة نشاط التأليف و الترجمة عند العرب لم تكن قد نشأت بعدُ نظريات التطور التي كان تشارلز داروين أحد أهم روادها . أما في فترة ظهور و تبلور أفكار و نظريات التطور فقد كانت حركة التأليف و الترجمة في أضعف مراحلها خلال فترة الاحتلال العثماني لمعظم الأقطار العربية . لذلك فقد ظلت المؤلفات الكلاسيكية القديمة هي السائدة لفترة طويلة من الزمن كمصدرٍ رئيسيٍ للمعرفة في مجال علم الحيوان دون أن تطرأ على معلوماتها تغييرات تُذكر . أما بالنسبة للبيطرة فقد حازت على مجال أكبر من البحث العلمي و اللغة العلمية في التراث العـربي، و ذلك عند مقارنتها بعلم الحيوان العام . و يبدو ذلك واضحاً من ناحية تشخيص الأمراض و علاجها، و كذلك الوقاية منها . كما أن البيطرة كانت أبعد عن الأساطير و الخرافات التي داخلت بعض نواحي علم الحيوان في التراث العربي . و اهتمام العرب بالجواد كان لا بد و أن يكون مقروناً بالاهتمام بعلله و تطبيبها، و هذا ما حفَّز بشكلٍ كبيرٍ تطورَ البيطرة عند العرب, و لا شك أن هذا الاهتمام نشأ عند العرب منذ بدؤوا بتدجين الخيل و استخدامها وسيلةً للتنقل و الحروب . و لهذا فليس من الغريب كثرة المؤلفات التي تناولت موضوع البيطرة عبر تاريخ العرب . و في هذا الصدد، من العسير الفصل بين البيطرة و علم الحيوان في مسارين مختلفين في التراث العربي
أبرز أعلام البيطرة و علم الحيوان عند العرب :
لقد أجريت بحوث و دراسات متوالية و كثيرة من أجل إيضاح تطور و تقدم الطبابة البيطرية في عصر الحضارة العربية الإسلامية . و قد عُثِرَ على الكثير من المؤلفات المشهورة و التي تنسب إلى بعض المؤلفين العمالقة في هذا المجال من أمثال ابن أخي خزام و ابن العوام و أبو بكر بن المندحر البيطار و غيرهم .
سنذكر هنا بعضاً من أهم علماء العرب الذين كتبوا في علم الحيوان و البيطرة, مرتَّبين وفق تواريخ ميلادهم :
1- الجاحظ :
هو أبو عثمان عمرو بن بحرالجاحظ البصرى , ولد سنة 776 للميلاد , و الشىء الهامّ هنا أن الجاحظ عاصر العصر الذهبي للأمّة الإسلامية, عصر العلوم و الآداب و الفنون التي زخرت بها معاهد البصرة و بغداد و الكوفة و غيرها من مدن الإسلام, و كان حينها النشاط شديداً بشكلٍ ملحوظٍ في مجال التأليف والترجمة .
يعد كتاب الحيوان -وهو من مؤلفات الجاحظ الأخيرة- أولَ كتابٍ وُضِعَ بالعربية جامعٍ في علم الحيوان , حيث أن من كتبوا قبل الجاحظ في هذا المجال أمثال الأصمعي و أبي عبيدة و ابن الكلبي و ابن الأعرابي و السجستاني وغيرهم, كانوا يتناولون حيوانًا واحدًا كالإبل أو الطير أو النحل, وكان اهتمامهم الأول و الأخير بالناحية اللغوية و ليس العلمية, و لكن الجاحظ اهتم إلى جانب اللغة و الشعر بالبحث في طبائع الحيوان و غرائزه و أحواله و عاداته. و لأن الجاحظ كان غزير العلم و مستوعبًا لثقافات عصره, فقد كانت مراجعه في كتبه تمتد لتشمل القرآن الكريم و الحديث النبوي و التوراة و الإنجيل و أقوال الحكماء و الشعراء و علوم اليونان و أدب فارس و حكمة الهند بالإضافة إلى تجاربه العلمية و مشاهداته و ملاحظاته الخاصة, و التي أدرجها في الكتاب بأسلوبٍ فريدٍ يدل على عالِمٍ فذٍّ في أمور الحيوان و كثيرٍ من الأمور الأخرى التي اشتمل عليها الكتاب من معارف طبيعيةٍ و فلسفيةٍ و سياسيةٍ و طبيةٍ و جغرافيةٍ , و مسائل فقهيةٍ , و شعرٍ و نوادر و فكاهة.
2- ابن أخي خزام :
عاش العالِم أبو يوسف يعقوب بن أخي خزام في القرن التاسع الميلادي، و قد كتب كثيراً من المؤلفات في مجال تربية الحيوان و خاصةً تربية الخيل، و من مؤلفاته الشهيرة في مجال الطبابة البيطرية كتاب (الخيال و البيطرة)، و قد عُثر على نسخة مصورة من هذا الكتاب في إحدى مكتبات اسطنبول و لم يُعرف متى تُرجم إلى اللغة التركية، و قد نسخ عام 1536 م، و هو مسجل في المكتبة السليمانية تحت رقم 3535 و مقياسه 20*30 سم و عدد صفحاته 314 صحيفة .و مما يذكر أنه منذ مطلع القرن التاسع الميلادي أخذت حركة الترجمة إلى اللغة العربية بالتقدم و التطور، كما أن الطب عند العرب المسلمين بصورة عامة أخذ بالازدهار و التطور، و كان هذا التطور مشفوعاً دوماً بتطورٍ مشابهٍ في علم البيطرة .لقد حرص الخلفاء العباسيون آنذاك على تنشيط و تطوير المضمار العلمي، و كان من بين هؤلاء الخلفاء الذين ساعدوا على الرفع من مستوى العلم الخليفة العباسي السابع المأمون (813-838 للميلاد) و قد كان غيوراً على العلم و محباً للعلماء مثله في ذلك مثل الخليفة هارون الرشيد، و قد أسس المأمون أكاديمية العلوم في بغداد و ساعد على جمع و ترجمة الكثير من الآثار اليونانية . و قد قدم المكافآت للعلماء لقاء نشرهم للكتب العلمية، و كان يتعاون مع المعتصم من أجل جلب العلماء الأجانب و استهوائهم بغية الاستفادة منهم .و كذلك فإن الخليفة المتوكل (847-861 للميلاد) كان يشجع على الترجمة و يكافئ المترجمين و العلماء بمكافآت مادية مجزية، إذ أنه كان يعطي المترجم ذهباً بمقدارٍ يتناسب مع وزن الكتاب الذي تُرجم، و كانت الترجمة بصورة عامة تتم تحت إشراف حنين بن إسحق .و في مقدمة كتاب الخيال و البيطرة يذكر ابن أخي خزام بأن الحصان حيوان قيم، و يشير إلى أهمية تغذية و تطمير الحصان و معالجة العرج عنده .و من أقوال ابن أخي خزام الشهيرة في الحصان : “كنت قد جربت كل العلاجات المفيدة عندما أسمع بحالةٍ مرضيةٍ عند الحصان، و قد كنت أستفيد من جميع المصادر و المؤلفات القديمة، و قد كتبت هذا الكتاب الذي يضم ثلاثين باباً و بحثت في اعظمها في عيوب و مناقص الحصان الخلقية و المكتسبة و وجدت أن البغال و الحمير و الجمال حيواناتٌ مفيدة في الحروب، و لذلك فإني كتبت في معالجتهم و مشاكلهم كما أنني تطرأت في البحث عن الأغنام و الأبقار ” .تعود الأقسام الأولى من الكتاب إلى علمٍ يدعى علم تدريب الخيل ، يليها بابٌ جيد في الولادة و مشاكلها ترك فيه المؤلف الاعتقادات الباطلة المتعلقة بالحمل و الولادة و لجأ إلى طرقٍ سليمةٍ و مبتكرة . و في باب المعالجة و المداواة يذكر المؤلف أنه استفاد من كثيرٍ من الأطباء اليونانيين، و حتى أنه يشير إلى مصادر الاستفادة أحياناً .و من المؤلفات الهامة أيضاً لابن أخي خزام كتاب (الفروسية) و هو أول كتاب باللغة العربية في موضوع الطبابة البيطرية . و عموماً نلاحظ أن هذا العالم العربي العملاق ليس مجرد مؤلفٍ نظري في مجال علم البيطرة، إنما هو بيطري اعتمد بشكلٍ كبيرٍ على تجاربه الشخصية في هذا المجال، و أفضل مثالٍ على ذلك طريقة معالجة الاستسقاء (الحبن)، بالإضافة إلى الأفكار الجديدة التي أدخلها في معالجة أمراض الحافر و القوائم، كما بين ضرورة عزل الحيوانات المصابة بخناق الخيل و الأغنام المصابة بالتهاب الظلف لكون هذه الأمراض ساريةً و قابلةً للانتقال إلى الحيوانات السليمة .
– لم يُعثر إلى الآن على أي أثرٍ يخص علم الحيوان الطبابة البيطرية في القرنين الميلاديين العاشر و الحادي عشر
البيطرة و علم الحيوان في التراث العربي
10
نوفمبر